يحب الإنسان رفع الجهل عن نفسه، وحب الاستطلاع وإضافة الجديد من المعلومات والمعارف إلى خزينته الذهنية في شتى أمور الحياة ومناحيها، وهو شرف عظيم؛ ونبينا صلى الله عليه وسلم أمر بالازدياد من العلم كما في القرآن الكريم ومع ذلك الشرف وتلك الرغبة العظيمة ينبغي ألا تأخذنا كثرة ما تنتجه المطابع والمؤسسات الصوتية من كتب وأشرطة متنوعة، ولا بد من الإحاطة بالعلم أولاً بمعرفة مبادئه، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: " العلم كثير ولن تعيه قلوبكم، فاتبعوا أحسنه".
وقد قال ابن خلدون رحمه الله في مقدمته الشهيرة:" وذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً".
وقال الشاعر:
وإذا طلبت العلم فاعلم أنه 
حِمل فأَبْصر أيَ شيء تحملُ 
وإذا علمت بأنه متفاضل 
فاشغل فؤادك بالذي هو أفضلُ 
|
وأمتنا الإسلامية تمر بمنعطف فكري عقدي في المقام الأول، وحملة لواء الشريعة والعلم لا بد أن يُبنوا بناءً علمياً أصيلاً ومتكاملاً في شتى المناحي، كما أن التقنية المعلوماتية في هذا العصر غدت مسيطرة على العالم، فلم تعد المسألة مسألة تأصيل علمي بجمع المعارف والحفظ وإنهاء الكتب فحسب، بقدر ما هو إدراك لمتطلبات العصر.
وبين هذا وذاك، من التراث الأصيل والعلم المعاصر، كان لنا هذا التحقيق الذي سعينا فيه إلى الإحاطة قدر الإمكان بكل ما يتعلق بالبناء العلمي، مع متخصصين في هذا الشأن على مدى حقب من الزمن، ومعتنين ببناء الطلبة أكاديمياً وتعليماً في المساجد، وممن نهلوا من معين الأوائل الصافي، حتى يسكبوا لنا من عذب نهرهم الزلال، ومن خبراتهم في هذا المجال، ومن ممارساتهم العملية على مدى الآجال، اختصاراً لطريق شباب الأمة القادمين، وإنهاضاً لأمجادها التي نتمنى أن تعود في شبيبتها المباركين، ويكون علماً ينتفع به على مر القرون، وسعينا كذلك إلى التنويع في الضيوف حتى ننقل خبرات الأقطار والأمصار.
وضيوف التحقيق هم على الترتيب الأبجدي:
د. أحمد الحارث الضاوي/ المغرب.
د. زغلول راغب النجار/ مصر.
د. عبد الله بن مبارك آل سيف/ السعودية.
د. عبد الله وكيّل الشيخ/ السعودية.
الشيخ فهد بن عبد الرحمن العيبان/ السعودية.
د. مختار محمد المهدي/ مصر.
جاءت مسارات التحقيق بشكل عام على محاور، أولها بدايات ومقدمات ومنطلقات عامة في مسيرة البناء:
وافتتحنا تحقيقنا على بركة الله تعالى بسؤال عميق وتمهيدي وهو: هل تنمية التفكير والبناء العلمي كان لها تاريخ في العصور القديمة، وهل كان للقرون السالفة والعصور البشرية القديمة اعتناء بهذا الأمر، وما مظاهره والأمثلة عليه. وقد افتتح لنا الإجابة د/ عبد الله مبارك آل سيف وهو الأستاذ المشارك بكلية الشريعة بالرياض فقال: الحمد لله والصلاة [والسلام] على رسول الله وبعد: في عصر الجاهلية قبل الإسلام لم يعرف للعرب عناية بهذا الأمر، حتى جاء الإسلام ونمى عندهم الاهتمام بالعلم والتأصيل العلمي في كافة العلوم، وفي عصر الإغريق كان أرسطو وأفلاطون وسقراط يهتمون بتنمية ملكة التفكير لدى طلابهم في العلوم المتاحة في زمانهم.
وهذه المسألة كان لها عناية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده ثم في عصور التابعين، أما في عصر النبوة فكان عليه الصلاة والسلام يسأل أصحابه وهو يعرف الجواب لتحريك أذهانهم وتنمية ملكات التفكير كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر في حديث النخلة.
أما في القرآن الكريم فإن الدعوة للتفكير وردت في مواضع متعددة، فقد وردت كلمة التفكر في أكثر من تسعة عشر موضعاً، والعقل في 49 موضعاً، والفقه في عشرين موضعاً، وقد عني الصحابة رضي الله عنهم بذلك وسار تلاميذهم من التابعين على هذا النهج، وقد نشأت مدرسة الافتراضات الفقيهة في الكوفة والتي كانت تستبق الأحكام قبل نزولها وتناقش حكمها، ولا زلنا نستفيد من افتراضاتها حتى اليوم في النوازل المعاصرة، بل ونشأت العلوم التي تنمي الملكة الفقهية مثل علم الألغاز وعلم الأصول والمقدمات المنطقية وغيرها، وكان العلماء يعتنون بتنمية مهارة الطالب من خلال الأسئلة والأجوبة والاختبارات الذهنية.
ويضيف الشيخ فهد العيبان إضافة شبيهة تقريباً ومفيدة إذ يقول: لا شك أن التاريخ البشري وقع فيه اعتناء بالبناء الفكري والعلمي على مراحل، وما يعنينا هنا هو التاريخ الإسلامي فقد كان للمسلمين علامة بارزة في البناء العلمي؛ وذلك متمثل في المدارس العلمية التي نشأت مع أول ظهور الإسلام بداية بالمعلم الأول صلوات الله وسلامه عليه حين كان في مكة في دار الأرقم، ثم توالت مدارس العلم والبناء العلمي في المدينة وحلقات العلم التي كان يعقدها لتعليم أصحابه وتلقينهم كما في قصة بسط رداء أبي هريرة في الصحيح، ثم جاء أصحابه من بعده فتفرقوا في البلدان ونشروا العلم فكانت لهم مدارس مشهورة في ذلك، ثم جاء من بعدهم التابعون فاستمرت مدارس العلم في عصرهم وتوسعت في بلدان كثيرة كمصر والشام والمغرب العربي وبلاد فارس وغيرها، ومن مظاهر هذا الاعتناء بالبناء العلمي ما كان يقيمه الخلفاء والسلاطين المسلمين من مدارس اشتهرت في الشام ومصر والحجاز وقام عليها علماء كبار وتنتمي هذه المدارس لمذاهب عدة، كل ذلك يدل دلالة واضحة على العناية الفائقة بالبناء العلمي.
وقد أفاض معنا د/ أحمد الحارث البزوي الضاوي وهو أستاذ التعليم العالي بجامعة شعيب الدكالي الجديدة إفاضة بعيدة بديعة، وتاريخية فكرية عميقة تستحق أن تبحث وتدرس؛ إذ تطرق فيها إلى الحقائق القرآنية والنبوية، ننتقي منها ما يلي حيث قال: إن هذا السؤال يوجب علينا البحث في علم جديد بالنسبة للدراسات القرآنية خاصة، والدراسات الإسلامية عامة، وهو ما يمكننا الاصطلاح عليه بعلم الإناسة القرآني حيث يتم دراسة تاريخ الأجناس البشرية انطلاقاً من رؤية قرآنية تختلف عن الدراسات الوضعية المتأثرة بنظرية التطور الداروينية، والتي هي جزء من الأوبئة التي أصابت الفكر البشري، ولوثت المجال العلمي والمعرفي، وقد أصابنا منها الشيء الكثير؛ إذ أضحينا نفكر بالمنطق نفسه، فلا نتصور الحياة قديماً وحديثاً وفي مختلف المجالات إلا رقياً وتطوراً من الأسوأ إلى الأحسن، ولا نتصور إمكانية حدوث العكس حيث التطور من الأحسن إلى الأسوأ، وهو أمر وارد، بل هناك من الأبحاث في العلوم الطبيعية ما يؤكده، وصدق ربنا إذ يقول:﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين ﴾[2] وكما يؤكده الدعاء المأثور: (اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء). كما تؤكده واقع الحياة، والمشاهدات المتواترة.
إننا لو قلبنا المسألة - وهذا الأمر من صميم نقل الخبرات إلى الأجيال الصاعدة، إذ يبرز لها أهمية الرؤية العلمية، أي زاوية النظر التي ننظر من خلالها للأشياء والقضايا، وهي ما يمكن الاصطلاح عليه بالأطروحة أو الإشكال العلمي أو المنهجي - أقول لو قلبنا المسألة لتغيرت نظرتنا إلى الأشياء، التي تركز على الآني، وتتجاهل الصيرورة والتطور بعيد المدى، فوقعنا أسرى لما يصطلح عليه بنظريات الحالة الراهنة، حيث انعدام الأفق النظري. خلافاً للرؤية القرآنية البعيدة المدى، التي تجعل الإنسان يؤمن بالله الواحد الأحد، الأول والآخر، الظاهر والباطن، المطلق المتعالي عن الزمان والمكان، فتجعل الإنسان في حياته مشدوداً إلى المطلق في بعديه: الجلال والجمال، مما يجعل رؤيته للعالم رؤية شمولية وبعيدة المدى، تستحضر اللحظة الآنية وتؤطرها في صيرورة وتطور بعيد المدى.
ونحن إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجد حقائق مذهلة عن الحضارات الإنسانية السابقة، وما تلمح إليه من تقدم علمي وتكنولوجي. ولعل الأبحاث الجارية منذ مدة عن الحضارات والشعوب السابقة في أمريكا اللاتينية، ومصر، والممالك الغارقة في البحار المحاذية لآسيا، وغيرها من الحضارات المطمورة في أوروبا وإفريقيا، لتجعل من الحقائق القرآنية بشأن هذه الشعوب والحضارات ذات مصداقية علمية كبيرة، فضلاً عن كونها تفتح آفاقاً جديدة لما يمكن الاصطلاح عليه بعلم (إناسة قرآني)، سيسفر البحث فيه عن حقائق مذهلة تقلب كل المعادلات الراهنة، المستندة إلى وقائع جزئية، ورؤية آنية، وأنا متضخمة، وغرور مرضي، معطل للعقل، ومقيد للفكر.
ويواصل الدكتور الضاوي حديثه الغيور والماتع جداً ذاكراً بعض الحضارات القديمة واستفادتها من الفهم والعلم قائلاً:إننا سنحيل في هذه العجالة إلى بعض الإشارات القرآنية التي تحتاج إلى مزيد البحث والنظر، ولعلها تحفز طلبتنا للنهوض بمتطلباتها في إطار أعمالهم العلمية التي يزمعون القيام بها:
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد .... ﴾[3].
﴿ ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً وسخرنا مع داود الجبال... ﴾[4].
﴿ وعلم آدم الأسماء كلها.. ﴾[5].
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة... ﴾[6].
إن الإنسان منذ أنزله الله تعالى إلى هذه الأرض لعمارتها، والسعي فيها إصلاحاً لا إفساداً، وهو يتعلم ويتدرب، ويكتسب خبرات ومهارات، ومعارف وعلوم، يتوارثها ويؤسس عليها إضافات جديدة ينقلها إلى الأجيال اللاحقة، وبذلك تطورت مسيرة العلوم والتقانة، وقد مكنته اللغة من ذلك، فلولاها ما أمكنه تناقل التجارب والخبرات والعلوم، ولكان لكل واحد منهم تجربته وخبرته تبدأ معه وتموت بموته، ومن هنا نفهم كيف جعل الله تعالى تعليم آدم - عليه السلام - الأسماء سبباً من أسباب التكريم يضيف إلى اللغة طرقا أخرى وظفها الإنسان في التعلم والتدريب ونقل التجارب والخبرات، متمثلة في المحاكاة، والملاحظة، والتجريب، وتكرار التجارب عن طريق التدريب، والتلقي، والعرض، كلها وسائل تربوية ابتكرها الإنسان منذ أنزله الله تعالى الأرض، وأناط به عمارتها، وأعطاه العقل، والحرية، والإرادة، والزمان، ليتعلم وينتج العلم والمعرفة والتقانة، ويتمكن من الحرف والمهن التي لا تقوم الحياة بدونها، فأبدع وأنتج، وبنى وعمر.
ثم يختم هذا التنظير بقوله: إن ما ذكرناه يتعلق بالإطار النظري العام، الذي يحتاج إلى تعميق البحث فيه نظريا وتطبيقيا، لاكتشاف حقائق تتعلق بالمسيرة العلمية للإنسان باعتبارها صيرورة بشرية، ساهمت فيها كل شعوب الأرض من لدن آدم - عليه السلام - إلى يومنا هذا، ولا عبرة بآراء تنزع نزعة عنصرية، أو سياسية، تنزع إلى الهيمنة والسيطرة.
ويمكننا في هذه العجالة أن نشير إلى تجربة تربوية رائدة قام بها كونتليان الروماني ولد سنة 35 قبل الميلاد، الذي ابتكر الوسائل التعليمية، حيث كان يصنع نماذج للحروف والأرقام من العظام يلعب بها الأطفال، ويستعينون بها على تعرف أشكالها، كما أسس مدرسة لتعليم الخطابة، اعتمد أسلوباً تعليمياً يزاوج بين التنظير والتدريب، ويعتمد الخطوات التالية:
التفكير: أن تجد ما تقوله " إبداع الأفكار ".
التنظيم: معرفة تنظيم ما تريد قوله " المنهج ".
الأسلوب: اختيار أسلوب لما تريد قوله " التعبير السليم عن الأفكار".
الذاكرة: حفظ ما يتعين قوله " التوثيق ".
الإلقاء: المزاوجة بين القول والحركة " الإنجاز ".
كما نجد اليونانيين قد ابتكروا ما يمكن الاصطلاح عليه بمقدمات العلوم Propédeutique، وهو التعليم الذي يسهل تعلم أشياء أخرى في المستقبل، فهو نوع من التعليم التأهيلي لدراسة علم ما، أو مجموع المعارف التي تكون قاعدة لتعلم علم ما. ولا يخفى ما لمقدمات العلوم من دور كبير في التأهيل العلمي بالنسبة لطلبة العلم، ومن ثم احتلت دوراً بارزاً في التأليف لدى المسلمين.
مهارات تراثنا الإسلامي:
وتدرجنا بعد ذلك في ذكر المهارات الموجودة في تاريخنا العربي والإسلامي، وكيف برع المؤلفون في تأليف كتبهم ووضعها بهذه الطرائق البارعة، منذ عصر تدوين السنة مروراً بأئمة الفقه والتفسير، وزمن شيخ الإسلام وطلابه ابن القيم والذهبي وابن عبد الهادي وابن رجب حتى القرون المتأخرة؟
أجاب د/ آل سيف حفظه الله: هذه المهارات كان لها مظاهر: منها ابتكار علوم جديدة لم تعرف من قبل وتأصيلها، وابتكار مخترعات جديدة في عصرهم ترتب عليها صناعات مذهلة في زمانهم، كما نمت ملكة النقد العلمي الهادف المبني على الدليل، وظهر ذلك في نقض المنطق اليوناني ونقد العقائد الباطلة والتيارات المنحرفة، وظهور مهارات المناظرة والحوار العلمي، والتفنن في التأليف بطرق غير مسبوقة مثل كتاب العين للخليل وغيره ومثل ابتكار علم العروض وتدوين أصول الفقه والنحو وعلم الصرف وغيرها.
وجاءت إجابة د/ الضاوي أيضاً متممة ومهمة في هذا المجال وتأصيلية بمعنى الكلمة، حيث واصل إفاضته البديعة فقال: ابتكرت الحضارة العربية الإسلامية نماذج تعليمية، وطرقاً تربوية مهمة من حيث التكوين، والتأطير، وإعادة التكوين والتدريب، بل نجد عندهم ما يمكن تسميته بالتكوين المستمر، والتعلم الذاتي، ولعل مراجعتنا لفهارس العلماء وبرامجهم تجعلنا نقف على حقائق مذهلة، يمكنها أن ترشد أساليبنا التربوية، وأن ترفع من مستوى تعليمنا.
إن العلم عند المسلمين أخذ مسارين [متوازيين يكمل كل منهما الآخر]:
أ- التوثيق: نقد السند والمتن " التحقيق ".
ب- والفهم: إعمال الفكر والنظر في النصوص قصد استنباط الحكم والحكمة.
ويتم أخذ العلم بطريقين:
1- السماع.
2- العرض.
ومن ثم فهو عملية تعلم مقصود ومنظم وليس تلقائياً، وفي ذلك تسريع لعملية تناقل المعارف والمعلومات وتنميتها.
ولعل رجوعنا إلى حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) تبين كيف استفاد المسلمون من حديث رسول الله مقومات العلم:
أ- معرفة مصادر المعلومات.
ب- حفظ المعلومات.
ت- فهم المعلومات.
ث- سرعة تداول المعلومات.
ج- إنتاج المعلومات.
ومن ثم كان ذلكم الحرص على توثيق المعلومات توثيقاً علمياً دقيقاً فأنتجوا علم مصطلح الحديث، وعلى فهم المعلومات فأنتجوا أصول الفقه وعلم التفسير وفقه الحديث، وعلى معرفة المصادر فأفردوا كل باب من أبواب العلم بكتب خاصة، يتم الرجوع إليها حيث المعلومة الموثقة، والفهم السليم، والتصنيف البديع، وبذلك أصلوا قاعدة مهمة من قواعد البحث العلمي ألا وهي أصالة المصادر والمراجع، حيث تؤخذ المعلومات من أصولها. كما ابتكروا المعاجم اللغوية والاصطلاحية، ومعاجم البلدان، وكتب الأعلام والرجال، كما عملوا على نشر العلم بالكتابة والتدريس، والرحلة، فمكنهم حرصهم على سرعة تداول المعلومات من الإبداع والابتكار.
وتعلم المسلمون من القرآن الكريم أن العلم هو المبني على البرهان: ﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾[7]، كما أخذوا بالدليلين القرآنيين: دليل الأنفس (البحث في الإنسان) فأنتجوا العلوم الإنسانية، و(البحث في الطبيعة) فأنتجوا العلوم الطبيعية، وذلك حتى يكون إيمانهم مؤسساً على العلم والمعرفة، كما في الأثر: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)[8]، حيث أرشدهم إلى إعمال عقولهم في الإنسان والطبيعة لأنهما نسبيان وهم مؤهلون للبحث فيها، أما البحث في الغيب فهو يتجاوز إمكانياتهم، والبحث فيه منتهى ما ينتهي إليه هو الحيرة والشك، وبهذا التوجيه النبوي الرشيد استفاد المسلمون مرتين وذلك من باب اقتصاد المجهود، وهو من حسن التدبير، حيث أقاموا إيمانهم على البرهان العلمي، وفي الوقت نفسه تمكنوا من اكتشاف سنن الله في الخلق، فامتلكوا القوة المذخورة في الطبيعة، مما مكنهم من عمارة الأرض والسعي فيها إصلاحاً لا إفساداً وذلك أحد أسباب خيريتهم.
وذكر حفظه الله تعدد الأساليب والمهارات قائلاً: كما تعلم المسلمون من رسول الله آداب التعلم، وطرق التعليم الناجحة، كاستخدام الأسلوب العملي في التعليم، وهو نوع من التدريب (حديث المسيء في صلاته)، والتعليم بالمحاكاة (صلوا كما رأيتموني أصلي)، و(خذوا عني مناسككم)، واستنصات المتعلم والحث على الاستماع، واستخدام طريقة التعليم القصصي، وضرب الأمثال، والحوار والإقناع (طالب الزنا)، واستخدام أسلوب التقسيم في التعليم (حديث السبعة الذين يظلهم الله بظله) واستعمال وسائل الإيضاح: الرسوم التوضيحية (حديث الأجل)، ومراعاة الفروق الفردية ومن ثم النهي عن مخاطبة الناس بما يتجاوز قدراتهم العقلية وهو في اعتقادي نوع من تفريد التعليم.
قبل سلوك الطريق:
ومع أننا نتحدث في تحقيقنا هذا حول محور مهم نرتكز عليه ألا وهو البناء العلمي من نواح تعليمية وتثقيفية وضبط للمتون والمسائل، لكننا لم نغفل جانباً ومنحى آخر قبل أن نتعمق في محورنا، ألا وهو البناء النفسي من ناحية الظروف الخاصة، والرغبة والهمة والإقبال أو ما يسمى بالاستعداد الفطري فطرحنا سؤالاً مفاده ما هو هذا الاستعداد الفطري، وكيف يعرف الطالب أنه امتلكه؟
ابتدأ الإجابة على هذا السؤال فضيلة الشيخ د/ عبد الله وكيل الشيخ وهو عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام/ قسم السنة وعلومها - وهو علم من العلماء المبرزين في عصرنا - فقال: كل مهنة في الحياة تحتاج إلى استعداد مسبق لدى من سيقبل على هذه المهنة، والعلم من أشرف المهن، لكنه كغيره من المهن يحتاج إلى جملة من الفضائل النفسية من أهمها الجد والمثابرة؛ والتفرغ لطلب العلم وبذل الوقت في خدمته، فلن يدرك العلم من كان قلبه مشغولاً في نواح متعددة وخاصة إن كانت مما هو ضد العلم. حتى الكسب الذي لا بد منه لمعيشة الإنسان ينبغي أن يكون طالب العلم فيه مقتصداً أو يعهد لغيره بأن ينشغل به حتى لا يقضي على كثير من وقته.
وفي إجابة فضيلة الشيخ مختار المهدي رئيس الجمعية العمومية للعاملين بالكتاب والسنة وضعٌ لليد على الجرح؛ إذ جاء بلفتات أبوية طيبة نذكرها مختصرة قال: الحقيقة التي يؤكدها الواقع ويؤيدها المنهج العلمي الذي اتبع على مدى عصور الإسلام أن البناء النفسي للطالب يسبق البناء العلمي وفى سبيل ذلك رأينا أوقاف المسلمين على طلاب العلم الشرعي التي وفرت لهم الجو النفسي من حيث ضمان إقامتهم ومعيشتهم وكتبهم ومدرسيهم بحيث لا تؤثر عليهم ظروفهم الخاصة، ولا ننسى ما كان يتبع في الأزهر من "الأروقة" التي كانت بديلاً عن المدن الجامعية ومن "الجراية" التي كانت تمثل التغذية، ومن إقامة الطلاب مع أساتذتهم لمراجعة ما يذاكرونه في أوقات فراغهم، ثم من اختيار الطالب لأستاذه بعد أن يسمع أكثر من أستاذ في المادة الواحدة، هذا النظام الذي أخذته أمريكا أخيراً وسمى بنظام الساعات، ثم الإصرار على أن تكون الدراسة في المسجد لإضفاء الروحانية على الطلاب الأمر الذي طبقه الغرب في إنشاء الجامعات في الكنائس.
ويضاف إلى ذلك احتكاك الأستاذ بالطالب علميا لمعرفة مدى استيعابه وشهادته له حين يتأكد من تحصيله العلمي، ولقد كان الطالب يعرف أنه امتلك الاستعداد الفطري والنفسي للسير في مجال العلم من مناقشته لأستاذه وثناء أستاذه عليه، ولقد كان أساتذتنا يقولون: إننا لا نعرف من الطلاب إلا فئتين: من يسأل سؤالاً تافها ومن يسأل سؤالا عميقا فالأسئلة تدل على صاحبها[9].
وهناك لفتات أخرى تفيد الشباب جداً إيمانياً ونفسياً تطرق لها الشيخ فهد العيبان فقال:
كثير من طلاب العلم يظن أن المنهجية العلمية التي سار عليها أهل العلم إنما هي مجرد برنامج علمي مشتمل على الحفظ والقراءة على الشيوخ، وهذا في ظني قصور في فهم المنهجية العلمية التي سار عليها أولئك الأفذاذ؛ فالمنهجية المتكاملة التي توصل بإذن الله إلى المقصود، هي المشتملة على الجانب العملي مع الجانب المعنوي، ومن تأمل سير السلف من علماء الأمة يلحظ هذا التكامل في حياتهم العلمية واضحاً جلياً، فليس طلب العلم عندهم مقتصراً على ماذا يقرأ، أو ماذا يحفظ، أو كيف يفهم، إنما هو منهج متكامل مشتمل على العلم والعمل، وهذا من أعظم أسباب تفوقهم وسعة فهمهم وحفظهم بعد توفيق الله تعالى، والجانب المعنوي نعني به: ما يعين على الجانب العملي وإتقانه، كالعمل بالعلم، وتحسين العلاقة مع الله بالتعبد والورع، والعناية بالشأن التربوي والسلوكي، المحفز على الاستمرار في التحصيل، والتأصيل العلمي، وفي ظني أن من أهم أسباب الفتور والإخفاق العلمي الذي نشاهده اليوم من بعض طلاب العلم، هو عدم تكامل هذين الجانبين في حياة الطالب العلمية، وبالأخص الجانب المعنوي والذي نجد فيه قصوراً ظاهراً من قِبَل كثيرٍ من طلاب العلم.
فطالب العلم قد يحصّل طرق التعلم العملية، ويُرسم له برنامجٌ علمي رصين متين وتجلب له أنواع الوسائل التعليمية، ومع هذا قد لا يوفق في تحصيل العلم والسير في طريقه، إذ بدون التألُّه والورع والخشية والسلوك الصحيح لن يؤتى الطالب زكاءً وقد لا يصل إلى مطلوبه.
تجاربهم وذكرياتهم[10]:
ومما يدخل تحت هذه النقطة ويزيدها إيضاحاً ويضفي عليها شيئاً من اللمسات التي يحتاجها طلبة العلم ويفيدون منها سألنا المشايخ عن أبرز النقاط التي شكلت منعطفاً في بنائهم العلمي أيام الشباب، وما أبرز التجارب التي أفادتهم في مسيرتهم، نذكرها إجمالاً:
فبدأنا بإجابة ضافية للشيخ/ مختار المهدي: أبرز هذه النقاط رغبة الوالد رحمة الله عليه في أن أكون أهلاً لدعوة الناس حتى يصل إليه من هذه الدعوة أجر وثواب، فوجهني إلى الأزهر وأخرجني من كلية دار العلوم.
ومن هذه النقاط أنني كنت شغوفاً بالاطلاع والمناقشة فيما أقرؤه مع أساتذتي الذين كان من حيث كنت إذا سألت عن معلومة في الفقه أو التفسير يمتنع عن الإجابة ويطلب منى البحث في المراجع العلمية بدار الكتب والعودة إليه بما حصلته.
ومنها: الإجازات الصيفية التي نحصل عليها كل عام فرصة للقراءة والاطلاع خاصة كتب الأدب الإسلامي مثل كتب المنفلوطي والرافعي والشيخ الغزالي وأحمد أمين والعقاد والبهى الخولى وغيرهم، وكتب الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي.كل هذه التجارب التي مرت بي أراها قد أفادتني في مسيرتي العلمية.
وبعده قصص لطيفة للدكتور/ الضاوي من المغرب حيث قال: إذا سمحتم أحب أن أرجع إلى الوراء أكثر، إلى مرحلة الطفولة حيث كانت العادة في أواسط القرن الماضي إدخال الأطفال قبل سن التمدرس إلى الكتاب، ومنهم من يظل يزاوج بين الكتاب والمدرسة النظامية، إلا أنني أذكر كيف أن غلظة وقسوة المدرس مربي الأطفال ومعلمهم القرآن أخرجتني من الكتاب ليأخذني أهلي إلى المدارس التي بدأت تنشأ كبديل عن الكتاب في المدن.
وأذكر كيف أن شاباً مغربياً من المغاربة الأوائل الذين التحقوا بالتدريس، الذي كان حكرا على الأجانب، وطني غيور، كيف أن هذا الرجل حبب إلينا القراءة والمطالعة، حيث أنشأ لنا مكتبة تعاونية، يقوم كل واحد منا بشراء كتاب وقراءته، واختيار الأساليب التي أعجبته وتدوينها في كراسة خاصة، ثم يتبادل الطلاب الكتب في ما بينهم كل أسبوع، بعد أن يمر الأستاذ بين الصفوف ويطلع على اختياراتنا، وينتقي منها ما يقوم الطلبة بإلقائه على زملائهم. فتعلمت من هذه التجربة أهمية التعاون، وأهمية جمع المعلومات وتوثيقها، وأهمية التدريب، والتعلم الذاتي. وأذكر كيف أن صاحب المكتبة التي زرتها عندما رآني أخرج بدون الكتاب الذي اخترته " رسالة إلى ولدي لأحمد أمين "، فناداني مستطلعا الأمر، حيث أخبرته أن المبلغ الذي معي لا يفي بثمن الكتاب، ليعطيني الكتاب بما معي وترك لي فضلة من المال أتدبر بها أمري، فشدني بذلك إلى عالم جديد، عالم الكتاب، بثقافة وقيم جديدة تسمو على الماديات، وتعمل على نشر العلم وتيسير الوصول إليه.
أما الدكتور عبد الله آل سيف فذكر نقاطاً وتجارب جميلة: في فترة الطلب دربت نفسي على عدد من المهارات من باب تنمية المهارة فمثلاً: نظمت القواعد المثلى لابن عثيمين في 120 بيتاً، وجمعت عبارات الجرح والتعديل المنثورة في كتب الجرح والتعديل ورتبتها على حروف المعجم حتى جاوزت عشرة حروف ومئات العبارات المختلفة ونقلت كلام أهل العلم فيها ومرتبتها مع أمثلة لها من كتب الجرح وكنت حينها في المرحلة الثانوية، كما دربت نفسي على كتابة المقالات فنشرت في عدد من الصحف والمجلات، كما شرعت في ترتيب مسند أحمد على الأبواب الفقهية وكنت حينها في الثالثة المتوسطة، وكنت في الثانوي أتدرب على التخريج ومعرفة صحة الأحاديث، وفي الفقه كنت أستخرج الكليات الفقهية من كتب الفقه بالمناقيش وأستخرج الضوابط الفقهية والألغاز الفقهية وتخريج الفروع على الأصول وتطبيقات القواعد الفقهية في الباب وكان لها أبلغ الأثر في البناء العلمي.
بين الجامعات والمساجد:
ومن تجاربهم التي لا تغفل أيضاً التدريس في الجامعة وفي المساجد وهما محوران مهمان في البناء والترسيخ العلمي، فكيف يرون هذه التجربة، وما الذي تنصحون به طلاب الجامعات الشرعية، لاسيما من كان في السنة الأولى من دراسته؟
أجاب هنا فضيلة د/ عبد الله وكيل الشيخ فقال: يتميز التدريس في الجامعات ودور العلم الرسمية كالمعاهد بأنه بناء علمي تراكمي، يتعاون في غرسه مجموعة من الأساتذة متنوعي التخصصات، وفي التخصص الواحد هم متنوعو الطرائق متعددو المواهب. ولذا فإن من أعظم ما ينصح به طلاب الجامعات الشرعية أن يقبلوا على مناهجهم الدراسية بجد ومثابرة أولاً: بالاستعداد للمحاضرات بالقراءة السابقة وثانياً: بالمشاركة الفاعلة أثناء المحاضرات بالمناقشة والمدارسة والاستفادة من توجيهات الأساتذة. وثالثاً: بمراجعة ما درسه الطالب أولاً بأول. مع توسيع دائرة الاطلاع على كتب مماثلة أو شروح أخرى للكتاب المدروس وتعليق الفوائد.
وهناك أمر يغفل عنه كثير من طلاب الجامعات الشرعية وهو أن الأساتذة قد لا يستوعبون المناهج الدراسية بالشرح فيبقى جزء ليس باليسير لم يشرح، وكثيراً ما يحذف من الامتحانات وحينئذ لا يطالعه الطالب فيتخرج وقد فاته قدر كبير لم يمر عليه أبداً، والأنفع للطالب أن يستوعب المنهج كاملاً ما شرح وما لم يشرح، وأحبذ أن تكون للطالب عادة راتبة وهي أن يكون من ضمن برنامجه في الصيف البحث عمن يشرح له تلك الأجزاء التي لم تشرح في قاعات الدراسة.
وأما التدريس في المساجد فمن أهم ميزاته أنه لا يرتاده إلا من كان جاداً في طلب العلم ولذا يكون في مرتادي هذه الدروس من النباهة والحرص والمثابرة ما ليس في طلبة الجامعات، كما أنها تفتح مغاليق الفكر، وتعين على تصور المسألة، ولكن من أعظم ما يؤخذ على هذه الدروس أنها متباعدة كدرس واحد في الأسبوع غالباً، وهذا القدر من الزمن لا يتيح التقدم في دراسة العلوم حيث يحتاج بعض الكتب المطولة لإنهائه إلى ما يصل إلى عشر سنوات أو تزيد.
وجاءت إجابة الشيخ مختار موقظة وموعية لأمر مهم فقال: كان للتدريس في المساجد اثر واضح في كيفية الوصول إلى عقول المستمعين على اختلاف ثقافاتهم ووعيهم إذ كانت مراعاة هذه الاختلافات تجبر الداعية على تبسيط المسائل والبعد عن المصطلحات الأكاديمية المعقدة، لتغيير أنماط حياته إلى ما يريده الله ورسوله.. وقد أثر هذا المنهج في طريقة التدريس بالجامعة حيث كنت أستوعب ما قاله الأولون من كل التيارات العلمية وأصبّ ذلك في أسلوب ميسر يستطيعون هضمه بسرعة ثم أدلف إلى أسلوب الأقدمين أشرحه وأحلله حتى يأنس الطالب تعبيرات الأولين من حيث انه سيحتاج إليها كمراجع في أي بحث علمي يتناوله في المستقبل.
وكان للشيخ فهد العيبان نصيحة طيبة على قصرها لا بد من ذكرها وهي أنه قال: أنصح من كان في السنة الأولى أن يعقد العزم على إتقان العلوم التي يتعلمها في الجامعة وأن يتفوق ويواصل دراسته ولا يستمع لمن يقول له إن العلم في المساجد فقط، فالعلم في المساجد والجامعات أيضا.
ولا زلنا أيضاً في منحى التجارب حيث أدخلنا نقطة تدخل في ذلك وهي أن مناهج الأساتذة الجامعيين تختلف من دكتور لآخر، فكيف يعالج الطالب ذلك إن كان يشكل مشكلة له في طريق بنائه، وما دور الدكتور في بنائه لطلابه؟
وقد تركنا الإجابة لـ د/ عبد الله وكيل، - وهو طبعاً يخوض هذا المعترك حتى الآن وله فيه باع وقدم سبق وصدق - فقال: تعدد مناهج الأساتذة لا يعد مشكلة بل هو إثراء لمعارف الطالب وتنمية لمهاراته المتعددة، فيتعلم من أستاذ مهارة التحليل، ومن آخر مهارة الجدل، ومن ثالث مهارة الاستقراء التاريخي أو الاستقراء لورود الأدلة، ومن رابع مهارة الربط بين المعلومة والواقع المعاش، ومن أجل هذا التعدد المثري كان علماؤنا الأقدمون يدفعون الطلاب إلى الرحلة في طلب العلم لأجل أن يكتسب هذه المهارات كما قيل للإمام أحمد: الرجل يحدث الحديث في بلده. أيرحل؟ أم يبقى في بلده؟ قال: بل يرحل يشامّ الرجال.وفي هذا إشارة إلى فوائد الرحلة التي تكسب هذا التعدد الذي يحتاجه طالب العلم.
وأما دور الأستاذ في بناء طالبه فبالاتجاه إلى إكسابه مهارة التعلم وتعويده التفكير الصحيح الناقد ومحض المعلومة والفيئة إلى الصواب متى ما أدركه لا يمنعه من ذلك ما كان يعتقده صحيحاً.
كما أن من أهم ما يجب أن يهتم به الأستاذ غرس حب الاطلاع والبحث والتشجيع من يفعل ذلك من الطلاب بالثناء عليه وإعطائه فرصته في الدرس يتلو إفاداته على مسمع من زملائه. وعليه أن يشجع البحث بين الطلاب أنفسهم بأن يتولى بعضهم مناقشة البعض الآخر، وهو يرعى هذا النقاش مسدداً موجهاً ومعرفاً بآداب البحث وبتثبيت الفضائل النفسية عند المتجاولين.
وذكر د/ آل سيف: يحاول الطالب التكيف مع كل وضع جديد، وهذه إيجابية إذا ما استغلها وأحسن الاستفادة منها؛ فاختلاف المناهج والطرائق في التدريس تنمي عنده خبرة في مجال التعليم فيما بعد وتجعله يختار منها الأفضل لطلابه، كما أن الطلاب لهم دور كبير في تنشيط الدكتور وتفعليه بصورة كبيرة من خلال التفاعل معه والاقتراح عليه ورفع معنوياته بالاستجابة السريعة وحسن الخلق والتعامل، ومما يذكر في هذا أن بعض التابعين حُرم من علم ابن عباس بسبب نزقه وسوء أدبه، كما أن للدكتور دوراً مهماً في بناء الطلاب وعليه أن يضع خطة لتطوير ملكاتهم ومهاراتهم في الفن من خلال تنويع الوسائل واستخدام أفضل الطرق والأساليب في إيصال المعلومة.
العلم والأقطار:
وخروجاً من هذا المنحى تطرقنا إلى الأقطار والأمصار وقلنا للمشايخ: نلاحظ في بعض الدول وجود البناء العلمي منذ الصغر كموريتانيا مثلاً، ومعلوم أن لذلك أثراً واضحاً على المتعلم، أفضل مما لو بدأ متأخراً وكبيراً. قال الدكتور عبد الله آل سيف: المفترض أن يكون هناك محاضن علمية متخصصة كما في موريتانيا حيث توجد ما يسمى بالمحاضن العلمية والتي تدرس الطلاب العلوم الشرعية المتنوعة وتجعلهم يحفظون المتون وتدرسها لهم وتخرج علماء متمكنين بمعنى الكلمة في كثير من الفنون وهذا ما نفتقده هنا كثيرا وفي كثير من الدول، وكانت توجد عندنا في الكتاتيب دروس المساجد بصورة مكثفة، ولكن الدراسة النظامية وعدم الاهتمام أضعف من دورها، وتحتاج إلى الاستفادة من كل مشاريع تكوين العلماء ومشاريع صناعة العلماء في أنحاء العالم الإسلامي.
•••
أحسب أننا كنا مع هذه الإجابات في رحلة ماتعة مشوقة جداً للدخول في صلب موضوعنا وهو محور خطة البناء العلمي للطالب، وقد ذكر لنا الضيوف إجابات طيبة وإضاءات وهاجة للطلبة وابتدأنا بهذه النقطة: يقال إن من المنهجية عدم الإغراق في طلب المنهجية حيث تتنوع الآراء حول المنهجيات في البناء؛ فقد ذكر أحد المشايخ الشناقطة أن هناك 45 فناً لا بد من حفظها وإتقانها للطالب حتى يؤهل لطلب العلم والتدريس، وهناك من المشايخ من حدد متون التأصيل 12 متناً ولن يكون الطالب طالب علم حتى يتقنها. ما تقولون حيال ذلك؟
قال د/ آل سيف: الشناقطة يبالغون في دراسة العلوم، بحيث يضيفون بعض العلوم التي قد لا يحتاجها طالب العلم مثل علم الأنساب فيحفظون ألفية البدوي وغيرها، وهذه علوم يحتاجها المتخصص الدقيق والراغب في معرفة علم الأنساب، ولكن الصحيح أن العلم في عشرة إلى 12 علماً هي العلوم المهمة والأصيلة التي يحتاجها طالب علم وهي مبسوطة في موضعها.
وبناء عليه أيضاً سألنا الضيوف ما الموقف حيال الكتب الكثيرة التي تعتني بالبناء العلمي للطالب، وإيضاح الصورة له في طريق طلب العلم؟
وفي لفتة مهمة أجاب د/ عبد الله وكيل: ينبغي أن يعلم أن هذه الكتب رصد لتجارب فردية وأخرى جماعية، كما أنها قد تكون رصداً لتجربة طويلة المدى أو قصيرة المدى ولذا فلا بد لطالب العلم بعد قراءته لتلك الكتب من الاستشارة لمن هم أقرب إليه وأعرف بمواهبه.كما أنه لا مانع من التجريب لأكثر من منهج من تلك المناهج حتى يصل الطالب إلى المنهج الذي يشعر بأنه يوصله إلى مبتغاه.
ووافقه د/ آل سيف قائلاً: يحرص الطالب على الكتب التي خرجت من تجربة حقيقية ناجحة وعرف صاحبها بالتمكن العلمي، فالكتب كثيرة في هذا المجال لكنها بعض تنظير بعيد عن الواقع، وليس لصاحبها تجربة تستحق الذكر.
لو أراد الشباب الذين يتابعون حوارنا أن ينطلقوا عملياً في بناء أنفسهم، فما قواعد الانطلاق التي تنصحونهم بها، وهل هناك فترة معينة يمكن أن نقول إنها فترة كافية للبناء العلمي للطالب لو بذل جهده فيها؟
أجاب د/ وكيل قائلاً: من أهم الفضائل اللازمة لطالب العلم تصحيح القصد في طلب العلم بأن يريد نفع نفسه ونفع الآخرين بإزالة صفة الجهل عنهم فهذه هي النية الخالصة التي يظهر أثرها في طلب العلم وتفهمه والعمل به وبذله للناس، وما تلبس أحد بنية دنيوية خالصة في طلب العلم إلا حرم من هذه الثمرات بقدر ما نقص من علمه. وطالب العلم لا يتوقف عن التحصيل حتى يموت، والتوقف عن التحصيل مزلة وحرمان.
وجاءت إجابة الشيخ فهد العيبان كلمسة حانية وخطة متقنة وأرضية صلبة وزبدة التحقيق أعطاها لإخوانه طلبة العلم وهو القريب من الشباب في الدروس التأصيلية فأترك له المجال معكم فقال: هذا سؤال يتكرر كثيراً، ولعلي أذكر هنا أهم الضوابط من خلال عرض بعض الأمثلة التطبيقية:
1- البدء بالمتون المختصرة في كل فن مثل: الأصول الثلاثة، كتاب التوحيد، الواسطية، الآجرومية، الورقات، نخبة الفكر، [الأربعين النووية]، منهج السالكين أو عمدة الفقه، وبعض المقدمات الأولية في التفسير والقواعد الفقهية والتجويد والأدب.[11] وذلك بحفظها - إن أمكن - مع قراءتها وفهمها على الشيخ، أو السماع من شريط إن لم تتيسر القراءة على الشيخ.
2- العناية بالضبط والإتقان لهذه المتون حفظاً وشرحاً، ولا ينتقل منها إلى غيرها إلا بعد الاطمئنان إلى ضبطها[12].
3- يخصص لكل متن من هذه المتون شرحاً من الشروح المطبوعة ويكون التعليق عليه والقراءة منه، ولا يكثر على نفسه الشروح لأنها متشابهة في الجملة (يمكن الجمع بين شرحين بتعليق أحدهما على الآخر).
4- لابد أن يعتني الطالب بأصوله التي يقرأ منها ويعلق عليها، بحيث تكون مرجعاً له عند المذاكرة.
5- الحذر من الاستعجال في أخذ هذه المتون، فلا بد من التأني والترسل مع الفهم والتصور الصحيح للمسائل، ويحذر كذلك من الإطالة والتشعب في بداية الطلب.
6- بعد الانتهاء من المختصرات، ينتقل إلى المتون المطولة مثل: بلوغ المرام، زاد المستقنع، ألفية ابن مالك في النحو وغيرها، مع العناية بحفظها - إن أمكن - وضبط شرحها.
7- ينبغي في هذه المرحلة الاطلاع على بعض الشروح المطولة، كالمغني والمجموع وفتح الباري ونيل الأوطار ونحو ذلك، مع العناية بشيء من البحث لبعض المسائل.
8- بعد الانتهاء من المطولات - حفظا وفهما - يكون الطالب قد حصّل الآلة التي تمكنه من الانتقال إلى الشروح والمطولات من كتب العلم بحسب كل فن، وذلك بجردها وانتقاء الفوائد منها وبحث المسائل والتوسع في الطلب.
9- الحرص على الضبط في تحصيل العلم: فالضبط يختصر الوقت، لأن الطالب إذا ضبط لن يحتاج إلى كثير وقت في التأهل، وكثير من طلبة العلم المبتدئين يفتقدون الضبط للعلم حفظاً وفهماً، ولذا تجدهم لا يتجاوزون أماكنهم، بينما أقرانهم ممن حرصوا على الضبط فاقوهم بمراحل في أقصر وقت، وأكاد أجزم أن التأهل العلمي وضبط أصول العلم لا يحتاج إلى أكثر من خمس سنين مع الضبط والإتقان[13].
ومن وسائل الضبط والإتقان للعلم:
أ- التكرار قال الإمام البخاري:(لم أر أنفع في العلم من نهمة الرجل ومداومة النظر).
ب- مدارسة العلم ومذاكرته وبالأخص في المناسبات.
ج- اتخاذ الصاحب النبيه للمدارسة.
وهنا يؤكد الشيخ على الجانب المعنوي الذي ذكره سابقاً فقال: والعلم ليس صعباً بل هو سهل المنال وممتع، متى ما صبرت وسلكت مسالكه، ولذا لا يستصعبه إلا من جهل طرقه ومنهجيته، وقل صبره، فحينها يستصعب الطريق ويستطيله، وحتى لا تصاب باليأس، من المهم أن تعلم أن أصول العلم التي لابد من ضبطها حيث تكون أساساً لفقه الشريعة وأساساً لما بعدها، وبها يحصل التأصيل العلمي إنما هي (قليلة، مختصرة، محصورة)، أما التفريعات والفوائد والتعليقات والحواشي على أصول العلم، فهي بحرٌ لا ساحل له.
10- حب القراءة طريق التعلم: الذي لا يحب القراءة لا يمكن أن يتعلم، ولذا يجب تعويد النفس على القراءة، ويكون ذلك بإطلاق العنان لها بأن تقرأ في كل شيء نافع حتى تتعود وتصبح القراءة ألذ شيء إلى نفسك [14].
11- التوازن والتكامل في تحصيل العلم: من ضوابط المنهجية في تحصيل العلم التوازن في أخذ العلوم بحيث يحصّل الأصول من كل فن، وأما التخصص لمن رغب فيه، فيأتي بعد التأصيل والشمولية في التحصيل، ويقبح بطالب العلم أن يكون فقيهاً لا يحسن تخريج حديث، أو محدثاً لا يحسن أصول الفقه أو طالب علم يلحن في قراءته.
وهنا أمر مهم سألنا عنه وهو مما يعايشه طلبة العلم وهو: طريقة الأوائل من حضور حلق الدرس وثني الركب ألا ترون أنها زوحمت الآن مع الشبكة والأشرطة، فهل نجمع بينهما أم يمكن الاقتصار على أحدهما دون الأخرى.
قال د/ عبد الله وكيل: حضور الدروس وثني الركب عند أهل العلم هي الطريقة المثلى لتحصيل العلم، لأنه الأساس في العلم صحة التصور للمعلومة، وهذا لا يتأتى بالقراءة المجردة، ولا بالسماع المجرد من خلال الأشرطة وغيرها، لأن حاضر الدرس قد يستشكل المعلومة ويستعيد من الأستاذ شرحها، وقد يعبر عن فهمه لها فيصحح الأستاذ له تصوره حينئذ، وكل هذه الأعمال إنما تحصل في الحضور الفعلي للدرس، لكن الوسائط الأخرى مثرية لما تعلمه الطالب أولاً لأن ما يقرؤه الطالب لا يتعدى في تقديري نسبة 20% من العلم الذي يحصله طالب العلم ويسمعه في الدروس، ودروس العلم المباشرة إنما تفتح مغاليق الفكر وتوجد مهارات التحصيل وتستثير همم الطالب، ولذا تجد العالم الكبير الذي أغنى المكتبة بمؤلفات إذا ترجم له وعدت الكتب التي حصلها في العلم وجدتها قليلة، ولكنها تحتوي أصول العلم ومفاتيحه.
• • • • • •
وبنهاية هذا الجزء نحسب أننا أنهينا البناء المأمول الذي نطمح إليه في تكوين طالب العلم، ولكن اللمسات الباقية للبيت لا بد منها ولا يمكن أن يسكن فيه إلا بعد هذه المهارات في الجزء الثاني:
مهارات متفرقة في طريق البناء:
1- تأصيل المهارات:
هناك مهارات متعددة في طريق طالب العلم، هل ينبغي أن يحيط طالب العلم بها، أم يقتصر على أحدها ويتخصص فيها، كمهارة تخريج الأحاديث، ومهارة البحث العلمي، ومهارة التلخيص والتقعيد وغيرها من الملكات، كما أن هناك دراسات للنوازل الاقتصادية والسياسية والطبية فما توجيهكم في ذلك مع انشغال طالب العلم بالقراءة والحفظ كأساس في التحصيل؟
أجاب باري القوس د/ عبد الله وكيل فقال:
يمكن أن نقسم المهارات إلى قسمين:
أ- مهارات لا بد منها لطالب العلم: وهي مهارات التفكير التي تضبط الاستدلال وتصحح النظر، وتورث القدرة على النقاش وتصحح التطبيق من الأدلة على الوقائع وتورث الاطراد الإيجابي؛ بحيث لا يثبت الطالب شيئاً وينفيه في موضع آخر، وهو الذي يسميه ابن دقيق العيد بالتثعلب، تشبيهاً بحركة الثعلب، بل يجري طالب العلم في استدلاله ونظره على جادة ثابتة، وإذا كان هناك استثناءات، فليكن لتلك الاستثناءات ضوابط واضحة، وقد وجدنا أهل العلم حينما يقررون القواعد الفقهية يتبعونها بالاستثناءات وتضبط تلك الاستثناءات بالعد حيناً وبالوصف حيناً آخر، والإنصاف والعدل والنظر إلى الأمور بروية من لوازم طالب العلم الذي يقرأ خلافات العلماء في الكليات والجزئيات، ويرى من صياغة الحجج والبينات ما يصرف نظره من قول إلى قول وربما أدركه الشطط في النظر إلى القول الآخر، فإن لم تكن له نفسية معتدلة واحترام لتعدد الأقوال في مسائل العلم أهلك نفسه وربما أهلك الآخرين.
ب- مهارات البحث العلمي، وهذه لا تلزمه بتمامها وكمالها، بل قد يعتمد على أهلها المتخصصين فيها، لكن هذه المهارات يلزم طالب العلم أن يعلم مصادرها التي يعود إليها عند الحاجة ويعلم منازل تلك المصادر من حيث القبول، وهذا ما أصبح مسطراً في عصرنا بما يسمى بالمداخل.
2- طالب العلم والتدوين:
التدوين من فوائده ترتيب المعلومة في ذهن الطالب وهو مفيد في ضبط العلم والشعور بالإنجاز. فما طريقتكم في التدوين والتلخيص واقتناء الكناشة، وهل هناك أصول يسير عليها العلماء في ذلك تنصحون بها الطالب، أم أنه راجع إلى اجتهاد كل إنسان.
أجاب الشيخ فهد العيبان: الغالب أن كثيراً من هذه الأساسيات ترجع إلى اجتهاد كل شخص وحاجته، لكن لأهل العلم طرقا وأساليب في هذا الأمر يحسن بطالب العلم النظر فيها والاستفادة منها، ومن ذلك:
أ- هناك تعليق للفوائد والشرائد يكون في الكتاب إما في أوله أو في آخره ولا يقيد من الفوائد إلا ما يكون منها في غير مظانها أو نفيسا ونحو ذلك.
ب- التعليق على كلام المؤلف إما بشرح غريب أو زيادة فائدة أو تنبيه على خطأ أو نحو ذلك ويكون هذا على حاشية الصفحة مع وضع رقم للفائدة.
ج- جمع الفوائد والنفائس في دفتر خارجي يجمع فيه طالب العلم ما يقع عليه في قراءته من فوائد ويحاول بقدر الإمكان تصنيفها بحسب الفن. أو يجمع فوائد كل كتاب لوحده.
3- طالب العلم والورد العلمي:
هناك من أهل العلم من له ورد معين في عدد محدد من الكتب في كل فن، ما مدى جدوى هذه الطريقة في نظركم، ومتى يكون ذلك في حياة الطالب.
وأجاب أيضاً الشيخ فهد العيبان: هذه الطريقة مهمة في تثبيت العلم واستحضاره، ويسلكها كثير من مشايخنا، فأحدهم له ورد من قراءة الزاد وآخر يقرأ في صحيح البخاري وبعضهم له ورد في أكثر من كتاب ومتن علمي وآخر يقرأ بحسب المواسم، ومما أعرفه عن شيخنا ابن باز: في مراجعته للعلم أنه كان يحرص على القراءة في المغني لابن قدامة مثلا بحسب الموسم كرمضان يقرأ ما يخص كتاب الصيام وهكذا، ويقرأ في كل عام في الحج من كتابه التحقيق والإيضاح المتعلق بأحكام الحج والعمرة.
لكن من المهم أن يكون ذلك لطالب العلم بعد أن يؤسس نفسه ويتقن كثيرا من الفنون، وإلا فالواجب في المراحل الأولى للتحصيل أن تكون القراءة فيما يشرح له فيكرر النظر فيه وذلك في جميع الفنون من فقه وعقيدة وعلوم آلة.
وقال د/ عبد الله وكيل: وجود ورد معين لطالب العلم يحافظ على مراجعته بطريقة ثابتة من أنفع الطرائق لتثبيت العلم وخاصة إذا كان طالب العلم لا يدرس تلك الفنون المتعددة فإن غياب هذا الورد يورث النسيان لمسائل العلم المختلفة وحينئذ يخسر مرتين: الأولى/ في نسيان مسائل العلم ذاتها، والثانية/ غياب التوظيف لتلك المسائل في علوم الشريعة الأخرى فإنه من المعلوم بداهة قوة الترابط بين علوم الشريعة يستوي فيها علوم الغايات أو علوم الوسائل. ولم يزل أهل العلم أصحاب الحافظة القوية يحرصون على مثل هذا الورد وقد حكى لنا شيخنا الشيخ عبد الله بن غديان رحمه الله ما كان يحافظ عليه من الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله من الورد في كتب يقرؤها في نهاية كل أسبوع.
وتشتد الحاجة مع كبر السن وكثرة المشاغل وتعدد الاهتمامات حيث يكون هذا الورد سبباً لبقاء مسائل العلم في الحافظة.
4- طالب العلم والرؤية الواضحة:
ربما لاحظنا من يشغل ذهنه أثناء المسيرة العلمية بمستقبله كأن يكون قاضياً، أو محاوراً ذا حجة قوية ليناقش أهل الفكر المنحرف والطوائف الضالة، أو مثلاً يريد أن يشرف على ملتقى معين. نطلب منكم نصيحة تعين الطالب على التركيز؟
أجاب على ذلك د/ عبد الله آل سيف فقال: كل شخص ينظر لما يتميز به من الملكات والمهارات، ويحاول أن يطور هذه المهارات، والأمة محتاجة للشباب في كل مجال من المجالات النافعة، وكلها طرق تؤدي إلى الجنة إذا أحسن الإنسان النية، وبعضها أفضل من بعض فطريق طلب العلم وتعليم الناس أعلاها درجة ولا يعدل مقام العلماء، فهم أفضل حتى من الشهداء؛ لأن مقامهم مقام ورثة الأنبياء، لكن بعض الناس قد لا ينصح بهذا الطريق لضعف الأدوات التي عنده أو لأن ظروفه لا تساعد على التفرغ للعلم وإفناء العمر فيه.
5- طالب العلم والرحلة:
في هذا الزمن هل يحتاج طالب العلم إلى الرحلة ومقابلة العلماء في مختلف الأقطار أم أغنى عن ذلك وجود الفضائيات والشبكة.
قال د/ عبد الله آل سيف: الرحلة مهمة لطالب العلم وتبني في عقل الطالب وذهنه معاني لا تتحقق بغيرها، كما أنها تحمسه لطلب العلم، ولازال هناك من العلماء من يستحقون الرحلة لهم في أقطار العالم الإسلامي بحمد الله.
طالب العلم والنواحي الفكرية والتاريخية واللغوية:
الترتيب الذهني لطالب العلم من ناحية الإلمام بتاريخ العلم وقرونه وعلماء كل قرن ما ترون فيه؟
ويواصل د آل سيف حديثه: هذا جانب مهم، فدراسة سير العلماء من الدوافع المعينة على طلب العلم والتي تحمس للاستمرار فيه بإذن الله، فمن قرأ سيرة الإمام أحمد والبخاري وأضرابهم شحن نفسه بشحنات قوية بالرغبة القوية في طلب العلم.
ما حالنا مع لغتنا لاسيما أنها لغة القرآن الكريم، وكيف يبنى طالب العلم لغوياً بحيث يكون حديثه على السليقة والفطرة، ويدرك أسرار الإعراب فوراً، وما الكتب الأدبية التي تفيد طالب العلم؟
قال د/ عبد الله وكيل: علم اللغة من أهم علوم الآلة، فبه يفهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا.
وعلوم اللغة التي ينبغي الاهتمام بها هي ما تكون سبباً لصحة الكلام وبعدد من الأخطاء وذلك من خلال علم النحو والصرف. وكذا ما يكون سبباً لجمال الأسلوب ورشاقة العبارة، وحلاوة الجملة وذلك ما ينهض بعلم البلاغة.
لكن هذه العلوم تلك لا تحصل الملكة فيها بدراسة مسائلها فقط ولكن بالدربة عليها ومن أنفع ذلك أن يقرأ طالب العلم على من يصحح له خطأه. وأن يكثر من قراءة الكتب الأدب شعراً ونثراً قديماً وحديثاً وخاصة ما كان لأساطين الأدب ورواد البلاغة[15]. وهذه دروس أتمنى أن تحيى في دور العلم ودوراته حتى يصبح لدى طلابنا إقبال عليها ومن ثم استفادة منها.
وغني عن التنبيه أن جمال اللفظ وحلاوة العبارة وصحة السبك قد تعادل أحياناً قوة الحجة من حيث المحتوى بل ربما استعملت حيناً للتغطية عن نقص الحجة ووهاء في الدليل.
وأضاف باختصار الشيخ فهد العيبان: أما الإعراب فمن المهم أن يكثر طالب العلم من قراءة الكتب التي تعتني بالإعراب بعد أن يتقن النحو ولو على متن مختصر كالآجرومية، ومما أنصح به واستفدت منه كثيراً كتاب شرح متن الآجرومية للكفراوي فهو إعراب للمتن مع شرحه وهو نفيس وميسر، وكتاب إعراب القرآن للعكبري.
العلم والتبحر فيه والقراءة الحرة:
يقال: العالم من عرف شيئاً عن كل شيء، وعرف كل شيء عن شيء، بين التخصص والثقافة العامة في جميع الفنون، كيف يسير طالب العلم في فلك هذه المقولة، وبين الفكر والعلم هناك خيط رفيع ربما، فمن يحتاج إلى الآخر، وهل يلزم طالب العلم أن يكون مفكراً، بمعنى أن يعتني بكتب الفكر والسياسة والاجتماع والجغرافيا والتاريخ الغربي وغيرها؟
في هذا الأمر الواسع حلق بنا الضيوف في تحريرات رصينة فعلاً فيها من الغيرة على الأمة وحسن الإدراك وسعته ما يثلج الصدر فلعلنا نبدأ بإجابة علم في الأمة وهو د/ زغلول النجار رئيس هيئة الإعجاز العلمي بالقاهرة وقد طار بنا في سماء تحرير بديع صافية، يشابه فعلاً ما سطره د/ أحمد الضاوي من غيرة وسعة إدراك على حال الأمة وعلومها ونختصر ما ذكره حيث قال حفظه الله: من مآسي عصرنا أن قيادة المعارف العلمية المكتسبة قد انتقلت من أيدي المسلمين إلى أيدي طائفة من الكفار والمشركين، وحين تقدمت المعارف العلمية والتقنية بأيدي هؤلاء صاغوها صياغة منكرة للدين، ومتنكرة لرب العالمين. لذلك أنصح القائمين على مناهج التعليم بضرورة التأصيل الإسلامي لجميع المعارف المكتسبة بوضع منتجاتها الكلية في الإطار الإسلامي الصحيح ، انتصاراً للحق العلمي وللحق الديني الصحيح في آن واحد، وإبراز إسهامات المسلمين في كل مجال من مجالات المعرفة الإنسانية.
وأنصح الشباب في عالمنا الإسلامي بضرورة الإقبال على دراسة العلوم في أطرها التي ذكرت آنفاً[16].
وسألناه كذلك عن كتب الإعجاز العلمي وأثرها على طالب العلم فقال:من الضوابط الملزمة في التعامل مع قضية الإعجاز العلمي في كل من كتاب الله وسنة خاتم أنبيائه ورسله الالتزام بتوظيف الحقائق القطعية الثابتة التي حسمها العلم، والتي لا رجعة فيها.
والعلوم التجريبية إذا وصلت إلى مقام الحقيقة أو القانون، أو المعادلة الرياضية الصحيحة فإنها لا يمكن أن تنقلب على ذاتها، وإن بقي الباب مفتوحاً للتوسع فيها والإضافة إليها، أما كل من الفرض والنظرية فهو قابل للسقوط، وعليه فلا يمكن استخدامهما في مجال الإعجاز العلمي إلا في حالات التفسير للآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بقضايا الخلق والإفناء والبعث لكل من الكون والأحياء والإنسان. وفي هذه الحالات يستضيء الباحث بالآية القرآنية الكريمة أو بالحديث النبوي الصحيح في التمييز بين عدد من النظريات العلمية للانتصار لإحداها بمجرد وجود إشارة لها في آية أو حديث نبوي. وذلك لأن الإنسان مهما أوتي من أسباب الذكاء والفطنة، ومن أدوات التقنية المتقدمة لا يمكنه أن يتجاوز مرحلة التنظير في قضايا الخلق والإفناء والبعث، ولذلك تتعدد فيها النظريات، ويبقى للمسلم (وللمسلم فقط) نور من الله الخالق- سبحانه وتعالى- في آية قرآنية كريمة ، أو في حديث نبوي صحيح يعينه على الانتصار لإحدى النظريات العديدة المطروحة، وليس هذا لغير المسلم. وهذه هي الحالة الوحيدة التي يسمح فيها باستخدام النظرية العلمية، لأن الإنسان لا يمكنه أن يصل في مجالات الخلق والإفناء والبعث إلى الحقيقة أبداً إلا بوحي ثابت من الله- تعالى- والوحي السماوي الوحيد المحفوظ على مدى أربعة عشر قرنا أو يزيد، محفوظا بحفظ الله في نفس لغة وحيه هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
وفي توجيه طيب من د/ عبد الله آل سيف قال: طالب العلم ينبغي له التركيز على طلب العلم وأن يحترم تخصصه وأن لا يدخل على الناس في تخصصاتهم وليس من الضرورة أن يكون العالم مفكراً، لكن ينبغي له الإلمام بالحد الأدنى من الكتب الفكرية والسياسية ونحوها حتى يعي واقعه ومجتمعه ولا يكون عرضة للاستغفال.
وفي إجابة الشيخ فهد العيبان إضاءة جميلة جامعة مانعة يستأنس بها طالب العلم حيث قال: ينبغي لطالب العلم في هذا العصر أن يكون عنده اطلاع لا بأس به في هذه العلوم ولا يعني ذلك التفرغ لها ولا التخصص فيها، لكن طالب العلم إذا أراد أن يكون إماماً فلا بد أن لا يكون جاهلاً في هذه العلوم بل يأخذ منها القدر الذي يمكن أن ينفع به الناس ولا يضر نفسه، ويكون ذلك بالقراءة في بعض هذه الكتب ويقتصر على المهم منها، وكذا الاطلاع على المجلات الإسلامية التي لها عناية بشيء من ذلك[17].
أما الدكتور عبد الله وكيل آل الشيخ فقد أعطانا إجابة عصرية مهمة جداً، وهي رسالة منه إلى طلبة العلم وعلماء الأمة أيضاً لا ينبغي إغفالها أترككم معها متدبرين واعين فقال حفظه الله: إن ما نسميه اليوم بالمفكر والعالم ما يسمى قديماً بعنوان الأديب والعالم؛ والفارق بينهما أن الأديب والمفكر لديه حصيلة علمية من فنون متعددة وتتجاوز هذه ميدان العلوم الشرعية إلى ميدان السياسة والاجتماع وعلم النفس ونحوها من العلوم البشرية، بل تتجاوز المنجز الإسلامي إلى ما أنجزه البشر الآخرون على اختلاف عقائدهم ومللهم. وإذا كان الأمر على هذا التحديد فالمفكر اليوم والأديب بالأمس ميدانه المنطلقات الكبرى للعلوم وقضاياها، ولكنه لا يصلح أن يكون قاضياً أو مفتياً أو مفسراً حينما يكون النقاش في مسألة جزئية تحتاج من العمق والدراية ما ليس عنده.
وأما العالم فهو الذي يفقه منطلقات علم بعينه وقضاياه الكلية، كما يحكم في الوقت ذاته مسائله الجزئية، ولكنه قد يفتقد المعرفة ببقية العلوم وخاصة ما كان خارج ميدان العلوم الشرعية، وهذا الاقتصاد في المعرفة قد يعوقه عن الحديث المؤثر في الدوائر العالمية التي تتداخل فيها العلوم، ولذا فمن كمال العالم الذي تخصص في علم بعينه أن يلم بقدر مناسب من العلوم الأخرى شأن كثير من العلماء الأقدمين كالغزالي وابن تيمية وابن خلدون وابن حزم وغيرهم.
وأما طالب العلم الذي لا يزال في مدارج التحصيل الأولى فلا ينبغي له أن يتشتت اهتمامه بتعدد القراءة إلا بعد زمن يحكم فيه مداخل العلوم الأساسية فإن أبى إلا القراءة فلتكن مساحتها من الوقت صغيرة جداً.
وبهذه المناسبة فإني أدعو العلماء إلى صياغة حديثة في الـتأليف يظهر فيها الترابط بين أجزاء العلم الواحد على سنن ما كتبه الأولون في القواعد الفقهية وكذا الفروق الفقهية بحيث يتكون لدى الدارس هيكل العلم متكاملاً ثم يخوض في تفاصيله.
وسألناه كذلك: هناك مجلات بحثية محكمة، وهي ذات مواضيع شيقة وجامعة لما تفرق، فهل هي للمتخصصين فقط، أم يمكن أن يطلع عليها الشباب وتساهم في بنائهم؟
فأجاب د/ عبد الله وكيل: المجلات العلمية سواء ما كان منها ورقياً أو "الكترونيا" يتميز بميزتين مهمتين؛ الأولى: التدقيق والتحقيق للمسائل المطروحة فيها وجمع أكبر عدد من النصوص في المسألة ميدان البحث مما يختصر على المتابع جهدا "كبيرا" كان سينفقه في تتبع المادة العلمية.
الثانية: أنها متابعة لنوازل الحياة ومعالجة العلم لها، وطالب العلم ينبغي أن يعيش هموم عصره وقضاياه فالعلم ليس حوادث تاريخية، بل هو حركة حيوية في تفاعل الشريعة مع مستجدات الحياة ومن المناسب أن يطلع طالب العلم على المجلات في تخصصه إن لم تكن كلها فالكثير منها وأن يطلع على المجلات الأخرى بالقدر الذي يحتاج إليه. وقريب من هذا المنتديات والمواقع العلمية وهذا تزيد بميزة أخرى إذ فيها حوار حي بين المتخصصين وهذا الحوار هو الذي يثري مسائل العلم ويولد التحقيق ويقوي رحم العلم بين أهله شريطة أن تكون النقاشات منطلقة من ثوابت العلم مكتسبة بآداب الطلب والبحث[18].
• • • • • •
على طريق المستقبل:
يتساءل الكثيرون لماذا كليات أصول الدين وعلوم الشريعة ليست بذات مستقبل يبني الطالب المتخرج ويجعله متقناً تخصصه مثل كليات الطب والهندسة التي يتخرج الطالب فيها محكماً تخصصه ناهيك عن مكانة يتلقاها في مجتمعه؟
في إجابة متألمة وأسيفة على الواقع فعلاً يجيب د/ عبد الله آل سيف: لو كانت العلوم على طريقة السلف في التلقي والحفظ والمدارسة ووفق المناهج التي مشوا عليها وأضيف عليها الوسائل الحديثة لرأيتها تخرج طلبة علم متميزين، لكن إذا كانت كلية أصول الدين - قسم السنة لا تلزم الطلب بالحد الأدنى من التأصيل كاستظهار بلوغ المرام وحفظ ألفية السيوطي في المصطلح ومعرفة أحاديث الكتب الستة بكثرة المراجعة، وقسم علوم القرآن لا يلزم الطالب بحفظ القرآن ولا بشيء من المنظومات في التجويد وعلوم القرآن مع شرح هذه المنظومات، ولا يلزمون الطالب ببرامج قراءة ولا جرد فلا نستغرب حينها النتيجة.
هناك توجه جديد عند عدد من طلبة العلم ألا وهو التخصص الإعلامي، سواء المرئي أو الصحفي ومنهم من جمع الأمرين، ما نصيحتكم لطالب العلم الإعلامي - إن صحت التسمية -؟
وكذلك قال حفظه الله: طالب العلم يحتاج لتفرغ وأوقات طويلة، فالعلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، نصيحتي لإخواني بالتخصص في طلب العلم أكثر، والمشاركة لا مانع منها لكن بقدر ما يفيد ويزكي علمه.
وقد ختمنا تحقيقنا[19] بهذا السؤال: كلمة أخيرة بعد هذا الحوار لطالب العلم، أو حول مشاريع خاصة تتبنونها؟
فقال د/ عبد الله آل سيف: أدعو في النهاية المؤسسات المعنية بالمحاضن العلمية العناية بإيجاد محاضن لصناعة العلماء بحيث تبنى على منهج علمي أصيل ورصين وينضم له المهتمون والراغبون من طلبة العلم، فالمتحمسون كثير لكن يحتاجون للبيئة المناسبة التي تسهل العلم وتحببه له، والتجربة الموريتانية حرية بالدراسة من قبل المهتمين فهي نموذج لبيئات غنية بمحاضن صناعة العلماء[20].
وأجاب الشيخ فهد العيبان: على طالب العلم أن يعلم أن كثيرا من المصاعب التي قد يظنها بعض طلاب العلم مصاعب سواء في الحفظ أو الفهم أو الاستحضار، إنما هي أوهام وهي راجعة إلى ضعف الهمة والفتور، فالعلم والفهم توفيق من الله وفتح منه، فمن اجتهد في طرق الباب يفتح له مع الاستعانة بالله واجتناب معاصيه والعمل بما تعلم، فكم من مشايخنا الذين أدركناهم لم يكونوا أحفظ الناس ولا أشدهم ذكاء، وإنما الذي ميزهم وأوصلهم إلى ما هم فيه من المنزلة العلمية هو بعد توفيق الله صدقهم مع الله واجتهادهم في تحصيل العلم وصبرهم عليه مع التعبد والتنسك الظاهر في حياتهم اليومية[21].
[1] نُشر هذا التحقيق بمجلة البيان عدد شعبان 1432 هـ، للكاتب أحمد مقرم النهدي؛ الباحث المتتبع لقضايا التأصيل العلمي والثقافي.
[4] الآيات الأنبياء: ٧٩ – ٨١
[8] وأما حديث: (تفكروا في آلاء الله تعالى، ولا تفكروا في الله تعالى) أخرجه أبو الشيخ (1/210، رقم 1)، والطبرانى فى الأوسط (6/250، رقم 6319)، قال الهيثمى (1/81): فيه الوازع بن نافع وهو متروك. وابن عدى (7/95، ترجمة 2017 وازع بن نافع العقيلى)، والبيهقى فى شعب الإيمان (1/136، رقم 120) قال البيهقى: هذا إسناد فيه نظر. وحسنه الألباني في الصحيحة (4/287).
[9] للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مقالة مؤثرة جداً في كتاب فكر ومباحث عنوانها "سؤال". (معد التحقيق)
[10] أفاض عدد من الضيوف في ذكر قصص جميلة لا يتسع المقام لذكرها.
[11] بهذا الصدد يسرني أن أضيف على هذه النقطة مستأذناً شيخي الفاضل إضافة نافعة إن شاء الله: هناك جهود شخصية طيبة لعدد من المشايخ في كل فن منها: كيف تكون فقيهاً د/ عبد الله الزاحم، ومادة أخرى بعنوان: كيف تكون مفسراً د/ مساعد الطيار، وهناك منظومة الزمزمي في علوم القرآن، كما أن مقدمات الشيخ السعدي رحمه الله في التفسير والقواعد الفقهية والفروق والتقاسيم مهمة جداً، وللدكتور وصفي عاشور أبو زيد مقالات مهمة في تكوين ثقافة الفقيه موجودة على الشبكة، ومن لطائف الكتب التي ينبغي ألا يغفلها طالب العلم كتاب روضة العقلاء لابن حبان ومنظومة الآداب المعروفة بـ(دالية ابن عبد القوي) وكتاب مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصحيح السيرة النبوية للشيخ محمد العلي وكتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم. (معد التحقيق).
[12] يقول ابن بدران رحمه الله": اعلم أن كثيراً من الناس يقضون السنين الطوال في تعلم العلم بل في علم واحد ولا يحصلون منه على طائل وربما قضوا أعمارهم فيه ولم يرتقوا عن درجة المبتدئين وإنما يكون ذلك لأحد أمرين:أحدهما: عدم الذكاء الفطري وانتفاء الإدراك التصوري وهذا لا كلام لنا فيه ولا في علاجه.والثاني: الجهل بطرق التعليم وهذا قد وقع فيه غالب المعلّمين فتراهم يأتي إليهم الطالب المبتدئ ليتعلم النحو مثلاً فيشغلونه بالكلام على البسملة ثم على الحمدلة أياماً بل شهوراً؛ ليوهموه سعة مداركهم وغزارة علمهم ثم إذا قُدّر له الخلاص من ذلك أخذوا يلقنونه متناً أو شرحاً بحواشيه وحواشي حواشيه ويحشرون له خلاف العلماء، ويشغلونه بكلام من رد على القائل وما أجيب به عن الرد، ولا يزالون يضربون له على ذلك الوتر حتى يرتكز في ذهنه أن نوال هذا الفن من قبيل الصعب الذي لا يصل إليه إلا من أوتي الولاية ". اهـ (المدخل ص 265).
[13] سألنا الشيخ عن الدورات العلمية الصيفية فقال: هذه الدورات العلمية فيها خير كثير، ولكن ينبغي أن نعلم أنه لا يمكن أن يكتفى بها في باب التحصيل والبناء العلمي، وإنما هي وسيلة من وسائل التعلم ينبغي أن يستفيد منها طالب العلم إما في مراجعة ما سبق أن تعلمه، أو أن تكون مفتاحا لما سيتعلمه، ولا ينبغي أن يكتفي بها عن الدروس الطويلة والتي تكون أكثر تفصيلا وتأنياً في البناء العلمي.
[14] - روى الخطيب البغدادي عن أبي العباس المبرّد قال: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة، وذكر الجاحظ إمام أهل الأدب المعتزلي، والفتح بن خاقان الأديب وكان وزير المتوكل، وإسماعيل بن إسحاق القاضي الفقيه المالكي، قال: أما الأول فكان يقرأ كل كتاب يقع بين يديه وكان يكثر زيارة دكاكين الوراقين ليقرأ ما فيها، وأما الثاني فكان يحمل الكتاب في كمِّه ويستفيد من قيامه وجلوسه عند الخليفة، وأما الثالث فإني ما دخلت عليه قط إلا وفي يده كتاب.
[15] ذكر ابن خلدون رحمه الله: وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي. ا.هـ كما أن كتاب جواهر الأدب للسيد الهاشمي فيه لطائف شيقة ورائعة وتأصيلية. (معد التحقيق).
[16] راجع مقالاً للدكتور على هذا الرابط: http://www.islamstory.com (الجيل-القرآني-وبناؤه-العلمي)
[17] الكتب الفكرية المأمونة تفتق ذهن طالب العلم وتوسع مداركه، وهي فعلاً تزيد فهمه للأحداث والرؤى من خلال تعدد الآراء والوصول إلى نتيجة تحليلية مفيدة وناضجة، ومن الأمثلة على الكتب المفيدة في ذلك ما يصدره مركز الدراسات والبحوث في مجلة البيان من تقارير استراتيجية وكتب مفيدة ذات خلاصات رائعة ومبحوثة بعناية مثل: مجوعة الإسلام لعصرنا، وكتاب الإسلام والعولمة، وقواعد شرعية في إدارة الصراع الحضاري بين المسلمين والغرب د.سامي الدلال، ونقد الليبرالية وغيرها، وهناك مؤلفات لكتاب معينين ينبغي ألا يغفلهم طالب العلم من جدوله العلمي مثل كتب مالك بن نبي (مستقبل الأفكار في العالم الإسلامي، ميلاد مجتمع، مشكلات الحضارة)، وأبو الحسن الندوي ولا سيما كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)، ومحمد قطب في (واقعنا المعاصر)،ومحمد الغزالي في (علل وأدوية، الإسلام والطاقات المعطلة) وهناك (حاضر العالم الإسلامي) لجميل المصري، وكتابات عبد الوهاب المسيري وعماد الدين خليل (تهافت العلمانية، إسلامية المعرفة)، ومحمد العبدة (قيام الدول وسقوطها)، وأنور الجندي وغيرهم وللدكتور صالح الحصين كتابات عن الغرب والإسلام.
وكتاب موقف الاتجاه الإسلامي العقلاني من النص الشرعي د. سعد العتيبي وغيرها.. (معد التحقيق).
[18] من هذه المجلات مجلة البيان والمستقبل الإسلامي، ومجلة الحكمة، ومجلة الأصول والنوازل، ومجلة الإسلام اليوم، وهناك مواقع مهمة مثل: موقع رؤى فكرية، يقظة فكر، والألوكة، المختصر للأخبار، قصة الإسلام لراغب السرجاني، والتاريخ الإسلامي لمحمد موسى الشريف وغيرها كثير جداً.
[19] لعل هذا التحقيق يجمع وينشر بكامل مادته في كتاب بإذن الله، ويُزوّد بملاحق مختلفة ومفيدة لبناء طالب العلم، لذا نرجو من الإخوة تزويدنا بآرائهم حول هذا الكتاب وإفاداتهم ومقترحاتهم على بريدي المذكور، وستسجل الفكرة باسم صاحبها، وهم شركاء في الأجر والمثوبة ولعل الله ينفع به طلبة العلم في مشارق الأرض ومغاربها، ويكون دليلاً ومرجعاً لهم. (أخوكم معد التحقيق).
[20] للشيخ حفظه الله محاضرة بعنوان الإبداع في طلب العلم فيها طرائق شيقة جداً يحسن بطالب العلم الرجوع إليها على هذا الرابط:
http://liveislam.net/browsearchive كما أن له لقاء شيقا على موقع الإسلام اليوم على هذا الرابط عن التأصيل الفقهي:
http://islamtoday.net/nawafeth/
[21] ذكر الشيخ في ورقة عمل ألقاها في مؤتمر عن التأصيل العلمي توصيات مهمة وهي:
1- إشاعة مبدأ التأصيل العلمي بين طلاب العلم، وذلك من خلال الاستمرار في إقامة الدروس العلمية المنهجية، ودعمها.
2- الحرص على نشر تجارب التأصيل العلمي، وحث المراكز العلمية على إقامة الدورات العلمية المؤصّلة.
3- تشجيع المشايخ على إعادة مسلك العلماء في طريقة التعليم المنهجية.
4- جمع ما يمكن من تجارب وأبحاث حول التأصيل العلمي، ضوابطه ومفهومه، وإخراجها في كتاب يتداول بين أهل العلم.
5- تفعيل جانب الشمولية في التأصيل العلمي والمنهجية العلمية، وعدم الاقتصار على الجانب العملي فقط.